توحيد المملكة- كفاح الملك عبدالعزيز لبناء وطن وضاء

المؤلف: علي بن محمد الرباعي11.20.2025
توحيد المملكة- كفاح الملك عبدالعزيز لبناء وطن وضاء

إنّ مسيرة الملك المؤسس، عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، نحو تحقيق حلمه الوحدوي، لم تكن طريقًا وادعةً مُعبّدةً بالورود، ولا أهدافُه النبيلة ومساعيه الخيّرة يسيرةَ التحقيق، أو مُذللةَ المسالك، فمن يدرك طبيعة الجزيرة العربية القاسية بتركيبتها الطبوغرافية الوعرة، ومناخاتها المتقلّبة الشديدة، يستطيع أن يُقدّرَ بكلّ وضوح، حجمَ الجهد والتضحيات الجسام التي بُذِلت على مدى ثلاثة عقود من الزمن.

ولا يخفى على الفِطنةِ والفِراسَةِ، أن يضع في الحسبان، أنّ المجدَ لا يُغلقُ أبوابه في وجه من يستحقه بجدارة، والتاريخ لا يدير ظهره لمن يصون صفحاته البيضاء ناصعةً، والجغرافيا، كفرسٍ أصيلة، لا تُسلّم زمام قيادتها إلا لمن يجلّها حقّ قدرها، وهي كالعروسِ الحسناء، لا تهبُ ودّها وعشقها إلا لمن يبذل الغالي والنفيس لنيل رضاها، فمن رامَ الحِسانَ لم يغلهِ المهر.

فكذلك، الله سبحانه وتعالى لا يلقي الأفكار المُلهِمة إلا في عقولٍ ترقى إلى أعلى درجات الهمّة، وقلوبٍ متحررةٍ من الغش والضغائن، تقدرُ الظروفَ العصيبةَ حق قدرها، وتسعى بكلّ ما أُوتِيت من أسبابٍ وأساليب مشروعة لبلوغ القمة، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الصعودَ يكون في ظروفٍ أصعب ممّا يتخيله المتفائل، وأيسر مما يخامر المتشائم من مشاعر.

لقد منحت الأقدار الملك عبدالعزيز كاريزما الملوك، بما حبته من أخلاق الملوك الأصيلة جيناتٍ وتربية، ولم تترك له الظروف خياراً آخر، ليختار لوطنه العزيز، ومهد أسلافه وأبنائه وأحفاده، مكاناً مُعدّاً للحضارة، على ضفاف الأنهار العذبة، ينعم بمناخ معتدل لطيف، ومحاطاً بالقصور الشامخة التي تكتنفها الغابات الباسقة، والحدائق الغنّاء ذات الأزهار الفاتنة، وأشجار الفواكه والثمار الشهيّة اليانعة.

بل كان موقع بلادنا أشبه بمِحَكٍّ لاختبار قدرات من صدُق توجّهه، ونبُل مقصده، ووفى بعهده وذمّته، وقد تجسّد ذلك في شخصية الملك عبدالعزيز، التي كانت ولا تزال مضرب المثل في الحكمة والاتزان، والتواضع الجمّ، والصلابة وقت الشدائد، والمرونة في التعامل، والكرم الفيّاض، والترشيد في الإنفاق، والمداراة وحسن السياسة، يغضب، وفي قمة غضبه، ينصف الناس وأوّلهم خصومه، ويفرح ويبتهج، فلا يطغى فرحه عليه، إلى تجاوز أو اعتداء على حق الله أو حقوق عباده، فازداد في أعين كل من حوله مهابةً مقرونة بالمحبة والتقدير.

لقد كان الملك عبدالعزيز، طيّب الله ثراه، عاشقاً للجزيرة العربية، وهي معشوقته، لم يخنها بفعل طائش، أو نظرة عابرة، وظلّ الملك عبدالعزيز الزعيم الأجدر بجائزة القرن العشرين، فرغم كل التناقضات والمفاجآت والأزمات، وضراوة الخصومات، انكبّ على غرس بذور المحبة والإحسان والأمل، في إنسان طالما أرهقته نوائب الدهر، ومكان طالما انتظر قدومه، وزمان أشرق نوره على يديه، فكان أخو نورة سيّد عصره ومِصْره، الذي حقق وحدةً استعصت على معاول الهدم والشرور والتآمر والفساد.

وإن كانت الذاكرة تستحضر العظماء من القادة المصلحين لتنصفهم، فإن التاريخ يقف إجلالاً وتقديراً لشخصية الملك عبدالعزيز، الذي لم يكن قائداً مصلحاً فحسب، بل كان صالحاً في ذاته وسيرته، عقيدةً وعبادةً وخُلقاً، منطلقاً قبل كل شيء وبعده، من نوايا حسنة، وأهداف سامية، لتوحيد وطن يجمع للناس خير الدنيا ونعيم الآخرة.

لقد كانت فكرة توحيد المملكة تبدو شبه مستحيلة، إلا على قائد مُلهم، عقد العزم وتوكل على الله، رغم قلة الإمكانيات، وتباعد المناطق، ووعورة التضاريس، وكثرة العقبات، وقسوة المناخ، ومحدودية الموارد، لكنه لم يفضّل نفسه على رفقائه ورجاله، بل كان يحرص على أن يأكلوا جميعاً إن توفّر الطعام، ويتقاسموا الأغطية البسيطة إن اشتدّ البرد القارس، وفي ظل غياب وسائل الحياة العصرية، عانى وقاوم، ومرض وتألم، وجُرح في معارك الوحدة الوطنية، ولكن كل ذلك لم يُضعف من عزيمته، ولم يوهن من قوته.

وكان بعض المخذّلين والمترددين يشفقون منه أو عليه، فحكموا مسبقاً بأن توحيد هذه القارة الشاسعة الأطراف، مغامرة غير مأمونة العواقب، تهدر الطاقات وتضيع الوقت، وربما رأوا فيه طموحاً سيجلب لصاحبه المشقة والعناء، إلا أن وضوح الرؤية، وتحديد الهدف، والاستعانة بالله، والثقة بالقدرات والإمكانات، جعلته يصرف النظر عن كل الآراء والنصائح العاطفية، وتلك التي تنمّ عن سوء النية.

أرى أن أعنف تحديات التنمية، برزت في مسيرة بلادنا منذ تأسيسها، على مستويات عدّة، منها المادي والمعنوي، والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فالموقع الجغرافي بما وهبه الله من خصائص، إلا أنه مكلف تنموياً، واحات تكاد تخنقها رمال الصحراء، وقرى احتمت بجبال خوفاً، وهجر موزّعة بين سهول وتلال تنهشها براثن الجوع والمرض والظلام، إضافة إلى انعدام الأمن بصورة كلية أو جزئية.

كما أنّ المناخات التي تذيب حرارتها اللافحة الحديد، وتجمّد برودتها القارسة الوليد، لم يستطع إنسان الجزيرة العربية التكيّف معها إلا بمشقة وصبر وتضحية، وكم ذهب أبرياء ضحايا، ودفعوا أرواحهم ثمناً للحرّ الشديد والبرد القارس، إضافة إلى أنّ التكوينات البشرية كانت ذات مشارب ومذاهب متنوّعة، وعندما قامت الدولة وعمّ الأمن، وتوفرت الخدمات، نسي المواطن الذي ينعم بإنجازات وطنه، ما كان عليه أسلافه من ضنك العيش وشظف الحياة.

لقد لانت للملك الصالح التضاريس الوعرة، وأصبحت طيّعةً مُذلّلة، وتصالحت معه المناخات الشرسة المنفّرة، وتحوّلت إلى مناخات جاذبة، وها نحن نستعيد في يومنا الوطني ذكرى سُراة الليل الذين هتف لهم الصباح، ونسعد بما أنعم الله به على بلادنا من إنجازات هي مصدر فخر واعتزاز وشكر لله رب العالمين، فما يكاد اليوم يقوم بيت في أقصى الجنوب، أو آخر في الشمال، أو على حافة الشرق أو ضفة الغرب، إلا وتصله كافة الخدمات ووسائل الراحة والرفاهية.

حفظ الله وطننا، وشدّ أزر مملكتنا بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، وحقق أهدافهما وطموحاتهما النبيلة.

ومضة: إنّ أقسى التضاريس هي تلك المتجذرة في العقول المتحجرة، وأعتى المناخات هي تلك السائدة في القلوب الجرداء القاحلة، والذي يجني الثمرة الطيبة لا يشعر بمعاناة من غرس الشجرة ورعاها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة